الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **
*3* الشرح: قوله: (باب الإمام تعرض له الحاجة بعد الإقامة) أي هل يباح له التشاغل بها قبل الدخول في الصلاة أو لا؟ وتعرض بكسر الراء أي تظهر. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنَاجِي رَجُلًا فِي جَانِبِ الْمَسْجِدِ فَمَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ حَتَّى نَامَ الْقَوْمُ الشرح: قوله: (عن أنس) في رواية لمسلم " سمع أنسا " والإسناد كله بصريون. قوله: (أقيمت الصلاة) أي صلاة العشاء، بينه حماد عن ثابت عن أنس عند مسلم. قوله: (يناجي رجلا) أي يحادثه، ولم أقف على اسم هذا الرجل، وذكر بعض الشراح أنه كان كبيرا في قومه فأراد أن يتألفه على الإسلام، ولم أقف على مستند ذلك. قيل ويحتمل أن يكون ملكا من الملائكة جاء بوحي من الله عز وجل، ولا يخفى بعد هذا الاحتمال. قوله: (حتى نام بعض القوم) زاد شعبة عن عبد العزيز " ثم قام فصلى " أخرجه مسلم، وهو عند المصنف في الاستئذان. ووقع عند إسحاق بن راهويه في مسنده عن ابن علية عن عبد العزيز في هذا الحديث " حتى نعس بعض القوم " وكذا هو عند ابن حبان من وجه آخر عن أنس، وهو يدل على أن النوم المذكور لم يكن مستغرقا، وقد تقدم الكلام على هذه المسألة في " باب الوضوء من النوم " من كتاب الطهارة، وفي الحديث جواز مناجاة الواحد غيره بحضور الجماعة، وترجم عليه المؤلف في الاستئذان " طول النجوى"، وفيه جواز الفصل بين الإقامة والإحرام إذا كان لحاجة، أما إذا كان لغير حاجة فهو مكروه، واستدل به للرد على من أطلق من الحنفية أن المؤذن إذا قال قد قامت الصلاة وجب على الإمام التكبير، قال الزين ابن المنير: خص المصنف الإمام بالذكر مع أن الحكم عام لأن لفظ الخير يشعر بأن المناجاة كانت لحاجة النبي صلى الله عليه وسلم لقوله " والنبي صلى الله عليه وسلم يناجي رجلا " ولو كان لحاجة الرجل لقال أنس: ورجل يناجي النبي صلى الله عليه وسلم. انتهى. وهذا ليس بلازم، وفيه غفلة منه عما في صحيح مسلم بلفظ: أقيمت الصلاة، فقال رجل: لي حاجة. فقام النبي صلى الله عليه وسلم يناجيه " والذي يظهر لي أن هذا الحكم إنما يتعلق بالإمام، لأن المأموم إذا عرضت له الحاجة لا يتقيد به غيره من المأمومين بخلاف الإمام. ولما أن كانت مسألة الكلام بين الإحرام والإقامة تشمل المأموم والإمام أطلق المؤلف الترجمة ولم يقيدها بالإمام فقال. *3* الشرح: قوله: (باب الكلام إذا أقيمت الصلاة) وأشار بذلك إلى الرد على من كرهه مطلقا. الحديث: حَدَّثَنَا عَيَّاشُ بْنُ الْوَلِيدِ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى قَالَ حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ قَالَ سَأَلْتُ ثَابِتًا الْبُنَانِيَّ عَنْ الرَّجُلِ يَتَكَلَّمُ بَعْدَ مَا تُقَامُ الصَّلَاةُ فَحَدَّثَنِي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَعَرَضَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ فَحَبَسَهُ بَعْدَ مَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ الشرح: قوله: (حدثنا عياش بن الوليد) هو الرقام وعبد الأعلى هو ابن عبد الأعلى السامي بالمهملة، والإسناد كله بصريون أيضا. وقول حميد " سألت ثابتا " يشعر بأن الاختلاف في حكم المسألة كان قديما، ثم إنه ظاهر في كونه أخذه عن أنس بواسطة، وقد قال البزار: إن عبد الأعلى بن عبد الأعلى تفرد عن حميد بذلك، ورواه عامة أصحاب حميد عنه عن أنس بغير واسطة. قلت كذا أخرجه أحمد عن يحيى القطان وجماعة عن حميد، وكذلك أخرجه ابن حبان من طريق هشيم عن حميد، لكن لم أقف في شيء من طرقه على تصريح بسماعه له من أنس وهو مدلس، فالظاهر أن رواية عبد الأعلى هي المتصلة. قوله: (فحبسه) أي منعه من الدخول في الصلاة، وزاد هشيم في روايته " حتى نعس بعض القوم " ويدخل في هذا الباب ما سيأتي في الإمامة من طريق زائدة عن حميد قال " حدثنا أنس قال: أقيمت الصلاة فأقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه " زاد ابن حبان " قبل أن يكبر فقال: أقيموا صفوفكم وتراصوا"، لكن لما كان هذا يتعلق بمصلحة الصلاة كان الاستدلال بالأول أظهر في جواز الكلام مطلقا، والله أعلم. (خاتمة) : اشتمل كتاب الأذان وما معه من الأحاديث المرفوعة على سبعة وأربعين حديثا: المعلق منها ستة أحاديث، المكرر فيه وفيما مضى ثلاثة وعشرون والخالص أربعة وعشرون، ووافقه مسلم على تخريجها سوى أربعة أحاديث: حديث أبي سعيد " لا يسمع مدى صوت المؤذن " وحديث معاوية وجابر في القول عند سماع الأذان، وحديث بلال في جعل إصبعيه في أذنيه. وفيه من الآثار عن الصحابة ومن بعدهم ثمانية آثار، والله أعلم. الحديث: أَبْوَابُ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ وَالْإِمَامَةِ الشرح: (أبواب صلاة الجماعة والإمامة) ولم يفرده البخاري بكتاب فيما رأينا من نسخ كتابه، بل أتبع به كتاب الأذان لتعلقه به، لكن ترجم عليه أبو نعيم في المستخرج " كتاب صلاة الجماعة " فلعلها رواية شيخه أبي أحمد الجرجاني. *3* وَقَالَ الْحَسَنُ إِنْ مَنَعَتْهُ أُمُّهُ عَنْ الْعِشَاءِ فِي الْجَمَاعَةِ شَفَقَةً لَمْ يُطِعْهَا الشرح: قوله: (باب وجوب صلاة الجماعة) هكذا بت الحكم في هذه المسألة، وكأن ذلك لقوة دليلها عنده، لكن أطلق الوجوب وهو أعم من كونه وجوب عين أو كفاية، إلا أن الأثر الذي ذكره عن الحسن يشعر بكونه يريد أنه وجوب عين، لما عرف من عادته أنه يستعمل الآثار في التراجم لتوضيحها وتكميلها وتعيين أحد الاحتمالات في حديث الباب، وبهذا يجاب من اعترض عليه بأن قول الحسن يستدل له لا به، ولم ينبه أحد من الشراح على من وصل أثر الحسن، وقد وجدته بمعناه وأتم منه وأصرح في كتاب الصيام للحسين ابن الحسن المروزي بإسناد صحيح " عن الحسن في رجل يصوم - يعني تطوعا - فتأمره أمه أن يفطر، قال: فليفطر ولا قضاء عليه، وله أجر الصوم وأجر البر. قيل: فتنهاه أن يصلي العشاء في جماعة، قال: ليس ذلك لها، هذه فريضة " وأما حديث الباب فظاهر في كونها فرض عين، لأنها لو كانت سنة لم يهدد تاركها بالتحريق، ولو كانت فرض كفاية لكانت قائمة بالرسول ومن معه. ويحتمل أن يقال: التهديد بالتحريق المذكور يمكن أن يقع في حق تاركي فرض الكفاية كمشروعية قتال تاركي فرض الكفاية، وفيه نظر لأن التحريق الذي قد يفضي إلى القتل أخص من المقاتلة، ولأن المقاتلة إنما تشرع فيما إذا تمالأ الجميع على الترك، وإلى القول بأنها فرض عين ذهب عطاء والأوزاعي وأحمد وجماعة من محدثي الشافعية كأبي ثور وابن خزيمة وابن المنذر وابن حبان، وبالغ داود ومن تبعه فجعلها شرطا في صحة الصلاة، وأشار ابن دقيق العيد إلى أنه مبني على أن ما وجب في العبادة كان شرطا فيها، فلما كان لهم المذكور دالا على لازمه وهو الحضور، ووجوب الحضور دليلا على لازمه وهو الاشتراط، ثبت الاشتراط بهذه الوسيلة. إلا أنه لا يتم إلا بتسليم أن ما وجب في العبادة كان شرطا فيها، وقد قيل إنه الغالب. ولما كان الوجوب قد ينفك عن الشرطية قال أحمد: إنها واجبة غير شرط. انتهى. وظاهر نص الشافعي أنها فرض كفاية، وعليه جمهور المتقدمين من أصحابه وقال به كثير من الحنفية والمالكية، والمشهور عند الباقين أنها سنة مؤكدة، وقد أجابوا عن ظاهر حديث الباب بأجوبة: منها ما تقدم. ومنها وهو ثانيها ونقله إمام الحرمين عن ابن خزيمة، والذي نقله عنه النووي الوجوب حسبما قال ابن بزيزة إن بعضهم استنبط من نفس الحديث عدم الوجوب لكونه صلى الله عليه وسلم هم بالتوجه إلى المتخلفين فلو كانت الجماعة فرض عين ما هم بتركها إذا توجه. وتعقب بأن الواجب يجوز تركه لما هو أوجب منه. قلت: وليس فيه أيضا دليل على أنه لو فعل ذلك لم يتداركها في جماعة آخرين. ومنها وهو ثالثها ما قال ابن بطال وغيره: لو كانت فرضا لقال حين توعد بالإحراق من تخلف عن الجماعة لم تجزئه صلاته، لأنه وقت البيان. وتعقبه ابن دقيق العيد بأن البيان قد يكون بالتنصيص وقد يكون بالدلالة، فلما قال صلى الله عليه وسلم " لقد هممت الخ " دل على وجوب الحضور وهو كاف في البيان. ومنها وهو رابعها ما قال الباجي وغيره إن الخبر ورد مورد الزجر وحقيقته غير مرادة. وإنما المراد المبالغة. ويرشد إلى ذلك وعيدهم بالعقوبة التي يعاقب بها الكفار، وقد انعقد الإجماع على منع عقوبة المسلمين بذلك، وأجيب بأن المنع وقع بعد نسخ التعذيب بالنار، وكان قيل ذلك جائزا بدليل حديث أبي هريرة الآتي في الجهاد الدال على جواز التحريق بالنار ثم على نسخه، فحمل التهديد على حقيقته غير ممتنع. ومنها وهو خامسها كونه صلى الله عليه وسلم ترك تحريقهم بعد التهديد، فلو كان واجبا ما عفا عنهم، قال القاضي عياض ومن تبعه: ليس في الحديث حجة لأنه عليه السلام هم ولم يفعل، زاد النووي: ولو كانت فرض عين لما تركهم، وتعقبه ابن دقيق العيد فقال: هذا ضعيف لأنه صلى الله عليه وسلم لا يهم إلا بما يجوز له فعله لو فعله، وأما الترك فلا يدل على عدم الوجوب لاحتمال أن يكونوا انزجروا بذلك وتركوا التخلف الذي ذمهم بسببه، على أنه قد جاء في بعض الطرق بيان سبب الترك وهو فيما رواه أحمد من طريق سعيد المقبري عن أبي هريرة بلفظ: " لولا ما في البيوت من النساء والذرية لأقمت صلاة العشاء وأمرت فتياني يحرقون " الحديث. ومنها وهو سادسها أن المراد بالتهديد قوم تركوا الصلاة رأسا لا مجرد الجماعة، وهو متعقب بأن في رواية مسلم: " لا يشهدون الصلاة " أي لا يحضرون. وفي رواية عجلان عن أبي هريرة عند أحمد " لا يشهدون العشاء في الجميع " أي في الجماعة، وفي حديث أسامة بن زيد عند ابن ماجه مرفوعا " لينتهين رجال عن تركهم الجماعات أو لأحرقن بيوتهم". ومنها وهو سابعها أن الحديث ورد في الحث على مخالفة فعل أهل النفاق والتحذير من التشبه بهم لا لخصوص ترك الجماعة فلا يتم الدليل، أشار إليه الزين بن المنير، وهو قريب من الوجه الرابع. ومنها وهو ثامنها أن الحديث ورد في حق المنافقين، فليس التهديد لترك الجماعة بخصوصه فلا يتم الدليل، وتعقب باستبعاد الاعتناء بتأديب المنافقين على تركهم الجماعة مع العلم بأنه لا صلاة لهم، وبأنه كان معرضا عنهم وعن عقوبتهم مع علمه بطويتهم وقد قال " لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه " وتعقب ابن دقيق العيد هذا التعقيب بأنه لا يتم إلا إذا ادعى أن ترك معاقبة المنافقين كان واجبا عليه ولا دليل على ذلك، فإذا ثبت أنه كان مخيرا فليس في إعراضه عنهم ما يدل على وجوب ترك عقوبتهم. انتهى. والذي يظهر لي أن الحديث ورد في المنافقين لقوله في صدر الحديث الآتي بعد أربعة أبواب " ليس صلاة أثقل على المنافقين من العشاء والفجر " الحديث، ولقوله " لو يعلم أحدهم الخ " لأن هذا الوصف لائق بالمنافقين لا بالمؤمن الكامل، لكن المراد به نفاق المعصية لا نفاق الكفر بدليل قوله في رواية عجلان " لا يشهدون العشاء في الجميع " وقوله في حديث أسامة " لا يشهدون الجماعة " وأصرح من ذلك قوله في رواية يزيد بن الأصم عن أبي هريرة عند أبي داود " ثم آتى قوما يصلون في بيوتهم ليست بهم علة " فهذا يدل على أن نفاقهم نفاق معصية لا كفر، لأن الكافر لا يصلي في بيته إنما يصلي في المسجد رياء وسمعة، فإذا خلا في بيته كان كما وصفه الله به من الكفر والاستهزاء، نبه عليه القرطبي. وأيضا فقوله في رواية المقبري " لولا ما في البيوت من النساء والذرية " يدل على أنهم لم يكونوا كفارا لأن تحريق بيت الكافر إذا تعين طريقا إلى الغلبة عليه لم يمنع ذلك وجود النساء والذرية في بيته، وعلى تقدير أن يكون المراد بالنفاق في الحديث نفاق الكفر فلا يدل على الوجوب من جهة المبالغة في ذم من تخلف عنها، قال الطيبي: خروج المؤمن من هذا الوعيد ليس من جهة أنهم إذا سمعوا النداء جاز لهم التخلف عن الجماعة، بل من جهة أن التخلف ليس من شأنهم بل هو من صفات المنافقين، ويدل عليه قول ابن مسعود " لقد رأيتنا وما يتخلف عن الجماعة إلا منافق " رواه مسلم، انتهى كلامه. وروى ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور بإسناد صحيح عن أبي عمير بن أنس حدثني عمومتي من الأنصار قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما يشهدهما منافق " يعني العشاء والفجر. ولا يقال فهذا يدل على ما ذهب إليه صاحب هذا الوجه لانتفاء أن يكون المؤمن قد يتخلف، وإنما ورد الوعيد في حق من تخلف لأني أقول بل هذا يقوى ما ظهر لي أولا أن المراد بالنفاق نفاق المعصية لا نفاق الكفر، فعلى هذا الذي خرج هو المؤمن الكامل لا العاصي الذي يجوز إطلاق النفاق عليه مجازا لما دل عليه مجموع الأحاديث. ومنها وهو تاسعها ما ادعاه بعضهم أن فرضية الجماعة كانت في أول الإسلام لأجل سد باب التخلف عن الصلاة على المنافقين ثم نسخ حكاه عياض، ويمكن أن يتقوى بثبوت نسخ الوعيد المذكور في حقهم وهو التحريق بالنار كما سيأتي واضحا في كتاب الجهاد، وكذا ثبوت نسخ ما يتضمنه التحريق من جواز العقوبة بالمال، ويدل على النسخ الأحاديث الواردة في تفصيل صلاة الجماعة على صلاة الفذ كما سيأتي بيانه في الباب الذي بعد هذا، لأن الأفضلية تقتضي الاشتراك في أصل الفضل، ومن لازم ذلك الجواز. ومنها وهو عاشرها أن المراد بالصلاة الجمعة لا باقي الصلوات، ونصره القرطبي، وتعقب بالأحاديث المصرحة بالعشاء، وفيه بحث لأن الأحاديث اختلفت في تعيين الصلاة التي وقع التهديد بسببها هل هي الجمعة أو العشاء، أو العشاء والفجر معا؟ فإن لم تكن أحاديث مختلفة ولم يكن بعضها أرجح من بعض وإلا وقف الاستدلال، لأنه لا يتم إلا إن تعين كونها غير الجمعة، أشار إليه ابن دقيق العيد، ثم قال فليتأمل الأحاديث الواردة في ذلك. انتهى. وقد تأملتها فرأيت التعيين ورد في حديث أبي هريرة وابن أم مكتوم وابن مسعود، أما حديث أبي هريرة فحديث الباب من رواية الأعرج عنه يومي إلى أنها العشاء لقوله في آخره " لشهد العشاء " وفي رواية مسلم " يعني العشاء " ولهما من رواية أبي صالح عنه أيضا الإيماء إلى أنها العشاء والفجر، وعينها السراج في رواية له من هذا الوجه العشاء حيث قال في صدر الحديث " أخر العشاء ليلة فخرج فوجد الناس قليلا فغضب " فذكر الحديث. وفي رواية ابن حبان من هذا الوجه " يعني الصلاتين العشاء والغداة " وفي رواية عجلان والمقبري عند أحمد التصريح بتعيين العشاء، ثم سائر الروايات عن أبي هريرة على الإبهام. وقد أورده مسلم من طريق وكيع عن جعفر بن برقان عن يزيد بن الأصم عنه فلم يسق لفظه وساقه الترمذي وغيره من هذا الوجه بإبهام الصلاة، وكذلك رواه السراج وغيره عن طرق عن جعفر، وخالفهم معمر عن جعفر فقال " الجمعة " أخرجه عبد الرزاق عنه، والبيهقي طريقه وأشار إلى ضعفها لشذوذها، ويدل على وهمه فيها رواية أبي داود والطبراني في الأوسط من طريق يزيد بن يزيد بن جابر عن يزيد بن الأصم فذكر الحديث، قال يزيد: قلت ليزيد بن الأصم: يا أبا عوف الجمعة عني أو غيرها؟ قال: صمت أذناي إن لم أكن سمعت أبا هريرة يأثره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ذكر جمعة ولا غيرها. فظهر أن الراجح في حديث أبي هريرة أنها لا تختص بالجمعة، وأما حديث ابن أم مكتوم فسأذكره قريبا وأنه موافق لأبي هريرة. وأما حديث ابن مسعود فأخرجه مسلم وفيه الجزم بالجمعة وهو حديث مستقل لأن مخرجه مغاير لحديث أبي هريرة، ولا يقدح أحدهما في الآخر فيحمل على أنهما واقعتان كما أشار إليه النووي والمحب الطبري، وقد وافق ابن أم مكتوم أبا هريرة على ذكر العشاء، وذلك فيما أخرجه ابن خزيمة وأحمد والحاكم من طريق حصين بن عبد الرحمن عن عبد الله بن شداد عن ابن أم مكتوم " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استقبل الناس في صلاة العشاء فقال: لقد هممت أني آتي هؤلاء الذين يتخلفون عن الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم. فقام ابن أم مكتوم فقال: يا رسول الله قد علمت ما بي؟ وليس لي قائد - زاد أحمد - وأن بيني وبين المسجد شجرا ونخلا ولا أقدر على قائد كل ساعة. قال: أتسمع الإقامة؟ قال: نعم. قال فاحضرها. ولم يرخص له " ولابن حبان من حديث جابر قال " أتسمع الأذان؟ قال: نعم. قال: فأتها ولو حبوا " وقد حمله العلماء على أنه كان لا يشق عليه التصرف بالمشي وحده ككثير من العميان. واعتمد ابن خزيمة وغيره حديث ابن أم مكتوم هذا على فرضية الجماعة في الصلوات كلها ورجحوه بحديث الباب وبالأحاديث الدالة على الرخصة في التخلف عن الجماعة، قالوا: لأن الرخصة لا تكون إلا عن واجب، وفيه نظر، ووراء ذلك أمر آخر ألزم به ابن دقيق العيد من يتمسك بالظاهر ولا يتقيد بالمعنى، وهو أن الحديث ورد في صلاة معينة فيدل على وجوب الجماعة فيها دون غيرها، وأشار للانفصال عنه بالتمسك بدلالة العموم، لكن نوزع في كون القول بما ذكر أولا ظاهرية محضة صلى الله عليه وسلم فإن قاعدة حمل المطلق على المقيد تقتضيه، ولا يستلزم ذلك ترك اتباع المعنى، لأن غير العشاء والفجر مظنة الشغل بالتكسب وغيره، أما العصران فظاهر، وأما المغرب فلأنها في الغالب وقت الرجوع إلى البيت والأكل ولا سيما للصائم مع ضيق وقتها، بخلاف العشاء والفجر فليس للمتخلف عنهما عذر غير الكسل المذموم، وفي المحافظة عليهما في الجماعة أيضا انتظام الألفة بين المتجاورين في طرفي النهار، وليختموا النهار بالاجتماع على الطاعة ويفتتحوه كذلك. وقد وقع في رواية عجلان عن أبي هريرة عند أحمد تخصيص التهديد بمن حول المسجد، وسيأتي توجيه كون العشاء والفجر أثقل على المنافقين من غيرهما. وقد أطلت في هذا الموضع لارتباط بعض الكلام ببعض، واجتمع من الأجوبة لمن لم يقل بالوجوب عشرة أجوبة لا توجد مجموعة في غير هذا الشرح. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِحَطَبٍ فَيُحْطَبَ ثُمَّ آمُرَ بِالصَّلَاةِ فَيُؤَذَّنَ لَهَا ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا فَيَؤُمَّ النَّاسَ ثُمَّ أُخَالِفَ إِلَى رِجَالٍ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ يَعْلَمُ أَحَدُهُمْ أَنَّهُ يَجِدُ عَرْقًا سَمِينًا أَوْ مِرْمَاتَيْنِ حَسَنَتَيْنِ لَشَهِدَ الْعِشَاءَ الشرح: قوله: (عن الأعرج) في رواية السراج من طريق شعيب عن أبي الزناد سمع الأعرج. قوله: (والذي نفسي بيده) هو قسم كان النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يقسم به، والمعنى أن أمر نفوس العباد بيد الله، أي بتقديره وتدبيره صلى الله عليه وسلم. وفيه جواز القسم على الأمر الذي لا شك فيه تنبيها على عظم شأنه، وفيه الرد على من كره أن يحلف بالله مطلقا. قوله: (لقد هممت) اللام جواب القسم، والهم العزم وقيل دونه، وزاد مسلم في أوله " أنه صلى الله عليه وسلم فقد ناسا في بعض الصلوات فقال: لقد هممت " فأفاد ذكر سبب الحديث. قوله: (بحطب ليحطب) كذا للحموي والمستملي بلام التعليل، وللكشميهني والباقين " فيحطب " بالفاء، وكذا هو في الموطأ ومعنى يحطب يكسر ليسهل اشتعال النار به. ويحتمل أن يكون أطلق عليه ذلك قبل أن يتصف به تجوزا بمعنى أنه يتصف به. قوله: (ثم أخالف إلى رجال) أي آتيهم من خلفهم. وقال الجوهري: خالف إلى فلان أي أتاه إذا غاب عنه، أو المعنى أخالف الفعل الذي أظهرت من إقامة الصلاة وأتركه وأسير إليهم، أو أخالف ظنهم في أني مشغول بالصلاة عن قصدي إليهم، أو معنى أخالف أتخلف - أي عن الصلاة - إلى قصدي المذكورين، والتقييد بالرجال يخرج النساء والصبيان. قوله: (فأحرق) بالتشديد، والمراد به التكثير، يقال حرقه إذا بالغ في تحريقه. قوله: (عليهم) يشعر بأن العقوبة ليست قاصرة على المال، بل المراد تحريق المقصودين، والبيوت تبعا للقاطنين بها. وفي رواية مسلم من طريق أبي صالح " فأحرق بيوتا على من فيها". قوله: (والذي نفسي بيده) فيه إعادة اليمين للمبالغة في التأكيد. قوله: (عرقا) بفتح العين المهملة وسكون الراء بعدها قاف قال الخليل: العراق العظم بلا لحم، وإن كان عليه لحم فهو عرق، وفي الحكم عن الأصمعي: العرق بسكون الراء قطعة لحم. وقال الأزهري: العرق واحد العراق وهي العظام التي يؤخذ منها هبر اللحم، ويبقى عليها لحم رقيق فيكسر ويطبخ ويؤكل ما على العظام من لحم دقيق ويتشمس العظام، يقال عرقت اللحم واعترقته وتعرقته إذا أخذت اللحم منه نهشا، وفي المحكم: جمع العرق على عراق بالضم عزيز، وقول الأصمعي هو اللائق هنا. قوله: (أو مرماتين) تثنية مرماة بكسر الميم وحكى الفتح، قال الخليل: هي ما بين ظلفي الشاة، وحكاه أبو عبيد وقال: لا أدري ما وجهه. ونقله المستملي في روايته في كتاب الأحكام عن الفربري قال: قال يونس عن محمد بن سليمان عن البخاري: المرماة بكسر الميم مثل مسناة وميضاة ما بين ظلفي الشاة من اللحم، قال عياض فالميم على هذا أصلية. وقال الأخفش: المرماة لعبة كانوا يلعبونها بنصال محدودة يرمونها في كوم من تراب، فأيهم أثبتها في الكوم غلب، وهي المرماة والمدحاة. قلت: ويبعد أن تكون هذه مراد الحديث لأجل التثنية، وحكى الحربي عن الأصمعي أن المرماة سهم الهدف، قال: ويؤيده ما حدثني. . ثم ساق من طريق أبي رافع عن أبي هريرة نحو الحديث بلفظ " لو أن أحدهم إذا شهد الصلاة معي كان له عظم من شاة سمينة أو سهمان لفعل " وقيل المرماة سهم يتعلم عليه الرمي، وهو سهم دقيق مستو غير محدد، قال الزين ابن المنير: ويدل على ذلك التثنية، فإنها مشعرة بتكرار الرمي بخلاف السهام المحددة الحربية فإنها لا يتكرر رميها وقال الزمخشري: تفسير المرماة بالسهم ليس بوجيه، ويدفعه ذكر العرق معه. ووجهه ابن الأثير بأنه لما ذكر العظم السمين وكان مما يؤكل أتبعه بالسهمين لأنهما مما يلهي به. انتهى. وإنما وصف العرق بالسمن والمرماة بالحسن ليكون ثم باعث نفساني على تحصيلهما. وفيه الإشارة إلى ذم المتخلفين عن الصلاة بوصفهم بالحرص على الشيء الحقير من مطعوم أو ملعوب به، مع التفريط فيما يحصل رفيع الدرجات ومنازل الكرامة. وفي الحديث من الفوائد أيضا تقديم الوعيد والتهديد على العقوبة، وسره أن المفسدة إذا ارتفعت بالأهون من الزجر اكتفى به عن الأعلى من العقوبة، نبه عليه ابن دقيق العيد، وفيه جواز العقوبة بالمال. كذا استدل به كثير من القائلين بذلك من المالكية وغيرهم، وفيه نظر لما أسلفناه، ولاحتمال أن التحريق من باب ما لا يتم الواجب إلا به، إذ الظاهر أن الباعث على ذلك أنهم كانوا يختفون في بيوتهم فلا يتوصل إلى عقوبتهم إلا بتحريقها عليهم. وفيه جواز أخذ أهل الجرائم على غرة لأنه صلى الله عليه وسلم هم بذلك في الوقت الذي عهد منه فيه الاشتغال بالصلاة بالجماعة، فأراد أن يبغتهم في الوقت الذي يتحققون أنه لا يطرقهم فيه أحد. وفي السياق إشعار بأنه تقدم منه زجرهم عن التخلف بالقول حتى استحقوا التهديد بالفعل، وترجم عليه البخاري في كتاب الأشخاص وفي كتاب الأحكام " باب إخراج أهل المعاصي والريب من البيوت بعد المعرفة " يريد أن من طلب منهم بحق فاختفى أو امتنع في بيته لددا ومطلا أخرج منه بكل طريق يتوصل إليه بها، كما أراد صلى الله عليه وسلم إخراج المتخلفين عن الصلاة بإلقاء النار عليهم في بيوتهم. واستدل به ابن العربي وغيره على مشروعية قتل تارك الصلاة متهاونا بها، ونوزع في ذلك. ورواية أبي داود التي فيها أنهم كانوا يصلون في بيوتهم كما قدمناه تعكر عليه. نعم يمكن الاستدلال منه بوجه آخر وهو أنهم إذا استحقوا التحريق بترك صفة من صفات الصلاة خارجة عنها سواء قلنا واجبة أو مندوبة كان من تركها أصلا رأسا أحق بذلك، لكن لا يلزم من التهديد بالتحريق حصول القتل لا دائما ولا غالبا، لأنه يمكن الفرار منه أو الإخماد له بعد حصول المقصود منه من الزجر والإرهاب. وفي قوله في رواية أبي داود " ليست بهم علة " دلالة على أن الأعذار تبيح التخلف عن الجماعة ولو قلنا إنها فرض، وكذا الجمعة. وفيه الرخصة للإمام أو نائبه في ترك الجماعة لأجل إخراج من يستخفي في بيته ويتركها، ولا بعد في أن تلحق بذلك الجمعة، فقد ذكروا من الأعذار في التخلف عنها خوف فوات الغريم وأصحاب الجرائم في حق الإمام كالغرماء. واستدل به على جواز إمامة المفضول مع وجود الفاضل إذا كان في ذلك مصلحة، قال ابن بزيزة: وفيه نظر لأن الفاضل في هذه الصورة يكون غائبا، وهذا لا يختلف في جوازه، واستدل به ابن العربي على جواز إعدام محل المعصية كما هو مذهب مالك، وتعقب بأنه منسوخ صلى الله عليه وسلم كما قيل في العقوبة بالمال، والله أعلم. *3* وَكَانَ الْأَسْوَدُ إِذَا فَاتَتْهُ الْجَمَاعَةُ ذَهَبَ إِلَى مَسْجِدٍ آخَرَ وَجَاءَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ إِلَى مَسْجِدٍ قَدْ صُلِّيَ فِيهِ فَأَذَّنَ وَأَقَامَ وَصَلَّى جَمَاعَةً الشرح: قوله: (باب فضل صلاة الجماعة) أشار الزين بن المنير إلى أن ظاهر هذه الترجمة ينافي الترجمة التي قبلها، ثم أطال في الجواب عن ذلك، ويكفي منه أن كون الشيء واجبا لا ينافي كونه ذا فضيلة، ولكن. الفضائل تتفاوت، فالمراد منها بيان زيادة ثواب الجماعة على صلاة الفذ. قوله: (وكان الأسود) أي ابن يزيد النخعي أحد كبار التابعين، وأثره هذا وصله ابن أبي شيبة بإسناد صحيح ولفظه " إذا فاتته الجماعة في مسجد قومه". ومناسبته للترجمة أنه لولا ثبوت فضيلة الجماعة عنده لما ترك فضيلة أول الوقت والمبادرة إلى خلاص الذمة وتوجه إلى مسجد آخر، كذا أشار إليه ابن المنير، والذي يظهر لي أن البخاري قصد الإشارة بأثر الأسود وأنس إلى أن الفضل الوارد في أحاديث الباب مقصور على من جمع في المسجد دون من جمع في بيته مثلا كما سيأتي البحث فيه في الكلام على حديث أبي هريرة، لأن التجميع لو لم يكن مختصا بالمسجد لجمع الأسود في مكانه ولم ينتقل إلى مسجد آخر لطلب الجماعة ولما جاء أنس إلى مسجد بني رفاعة كما سنبينه. قوله: (وجاء أنس) وصله أبو يعلى في مسنده من طريق الجعد أبي عثمان قال: " مر بنا أنس، بن مالك في مسجد بني ثعلبة " فذكر نحوه قال: وذلك في صلاة الصبح، وفيه " فأمر رجلا فأذن وأقام ثم صلى بأصحابه " وأخرجه ابن أبي شيبة من طرق عن الجعد، وعند البيهقي من طريق أبي عبد الصمد العمي عن الجعد نحوه وقال " مسجد بني رفاعة " وقال " فجاء أنس في نحو عشرين من فتيانه " وهو يؤيد ما قلناه من إرادة التجميع في المسجد. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صَلَاةَ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً الشرح: قوله: (صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ) بالمعجمة أي المنفرد، يقال فذ الرجل من أصحابه إذا بقي منفردا وحده. وقد رواه مسلم من رواية عبيد الله بن عمر عن نافع وسياقه أوضح ولفظه " صلاة الرجل في الجماعة تزيد على صلاته وحده". قوله: (بسبع وعشرين درجة) قال الترمذي عامة من رواه قالوا خمسا وعشرين إلا ابن عمر فإنه قال سبعا وعشرين. قلت: لم يختلف عليه في ذلك إلا ما وقع عند عبد الرزاق عن عبد الله العمري عن نافع فقال فيه خمس وعشرون لكن العمري ضعيف، ووقع عند أبي عوانة في مستخرجه من طريق أبي أسامة عن عبيد الله ابن عمر عن نافع فإنه قال فيه بخمس وعشرين وهي شاذة مخالفة لرواية الحفاظ من أصحاب عبيد الله وأصحاب نافع وإن كان راويها ثقة. وأما ما وقع عند مسلم من رواية الضحاك بن عثمان عن نافع بلفظ بضع وعشرين فليست مغايرة لرواية الحفاظ لصدق البضع على السبع، وأما غير ابن عمر فصح عن أبي سعيد وأبي هريرة كما في هذا الباب، وعن ابن مسعود عند أحمد وابن خزيمة، وعن أبي بن كعب عند ابن ماجه والحاكم، وعن عائشة وأنس عند السراج، وورد أيضا من طرق ضعيفة عن معاذ وصهيب وعبد الله بن زيد وزيد بن ثابت وكلها عند الطبراني، واتفق الجميع على سبع وعشرون سوى رواية أبي فقال أربع أو خمس على الشك، وسوى رواية لأبي هريرة عند أحمد قال فيها سبع وعشرون وفي إسنادها شريك القاضي وفي حفظه ضعف. وفي رواية لأبي عوانة بضعا وعشرين وليست مغايرة أيضا لصدق البضع على الخمس، فرجعت الروايات كلها إلى الخمس والسبع إذ لا أثر للشك، واختلف في أيهما أرجح فقيل رواية الخمس لكثرة رواتها، وقيل رواية السبع لأن فيها زيادة من عدل حافظ، ووقع الاختلاف في موضع آخر من الحديث وهو مميز العدد المذكور، ففي الروايات كلها التعبير بقوله " درجة " أو حذف المميز، إلا طرق حديث أبي هريرة ففي بعضها " ضعفا " وفي بعضها " جزءا " وفي بعضها " درجة " وفي بعضها " صلاة " ووقع هذا الأخير في بعض طرق حديث أنس، والظاهر أن ذلك من تصرف الرواة، ويحتمل أن يكون ذلك من التفنن في العبارة. وأما قول ابن الأثير: إنما قال درجة ولم يقل جزءا ولا نصيبا ولا حظا ولا نحو ذلك لأنه أراد الثواب من جهة العلو والارتفاع فإن ذلك فوق هذه بكذا وكذا درجة لأن الدرجات إلى جهة فوق، فكأنه بناه على أن الأصل لفظ درجة وما عدا ذلك من تصرف الرواة، لكن نفيه ورود " الجزء " مردود، فإنه ثابت، وكذلك الضعف، وقد جمع بين روايتي الخمس والسبع بوجوه: منها أن ذكر القليل لا ينفي الكثير، وهذا قول من لا يعتبر مفهوم العدد، لكن قد قال به جماعة من أصحاب الشافعي وحكى عن نصه، وعلى هذا فقيل وهو الوجه الثاني: لعله صلى الله عليه وسلم أخبر بالخمس، ثم أعلمه الله بزيادة الفضل فأخبر بالسبع، وتعقب بأنه يحتاج إلى التاريخ، وبأن دخول النسخ في الفضائل مختلف فيه، لكن إذا فرعنا على المنع تعين تقدم الخمس على السبع من جهة أن الفضل من الله يقبل الزيادة لا النقص. ثالثها أن اختلاف العددين باختلاف مميزهما، وعلى هذا فقيل: الدرجة أصغر من الجزء، وتعقب بأن الذي روى عنه الجزء روى عند الدرجة. وقال بعضهم: الجزء في الدنيا والدرجة في الآخرة، وهو مبني على التغاير. رابعها الفرق بقرب المسجد وبعده. خامسها الفرق بحال المصلي كأن يكون أعلم أو أخشع. سادسها الفرق بإيقاعها في المسجد أو في غيره. سابعها الفرق بالمنتظر للصلاة وغيره. ثامنها الفرق بإدراك كلها أو بعضها. تاسعها الفرق بكثرة الجماعة وقلتهم. عاشرها السبع مختصة بالفجر والعشاء وقيل بالفجر والعصر والخمس بما عدا ذلك. حادي عشرها السبع مختصة بالجهرية والخمس بالسرية، وهذا الوجه عندي أوجهها لما سأبينه. ثم إن الحكمة في هذا العدد الخاص غير محققة المعنى. ونقل الطيبي عن التوربشتي ما حاصله: إن ذلك لا يدرك بالرأي، بل مرجعه إلى علم النبوة التي قصرت علوم الألباء عن إدراك حقيقتها كلها، ثم قال: ولعل الفائدة هي اجتماع المسلمين مصطفين كصفوف الملائكة، والاقتداء بالإمام، وإظهار شعائر الإسلام وغير ذلك. وكأنه يشير إلى ما قدمته عن غيره وغفل عن مراد من زعم أن هذا الذي ذكره لا يفيد المطلوب، لكن أشار الكرماني إلى احتمال أن يكون أصله كون المكتوبات خمسا فأريد المبالغة في تكثيرها فضربت في مثلها فصارت خمسا وعشرين. ثم ذكر للسبع مناسبة أيضا من جهة عدد ركعات الفرائض ورواتبها. وقال غيره: الحسنة بعشر للمصلي منفردا فإذا انضم إليه آخر بلغت عشرين ثم زيد بقدر عدد الصلوات الخمس، أو يزاد عدد أيام الأسبوع، ولا يخفى فساد هذا. وقيل: الأعداد عشرات ومئين وألوف وخير الأمور الوسط فاعتبرت المائة والعدد المذكور ربعها، وهذا أشد فسادا من الذي قبله. وقرأت بخط شيخنا البلقيني فيما كتب على العمدة: ظهر لي في هذين العددين شيء لم أسبق إليه، لأن لفظ ابن عمر " صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ " ومعناه الصلاة في الجماعة كما وقع في حديث أبي هريرة " صلاة الرجل في الجماعة " وعلى هذا فكل واحد من المحكوم له بذلك صلى في جماعة، وأدني الأعداد التي يتحقق فيها ذلك ثلاثة حتى يكون كل واحد صلى في جماعة وكل واحد منهم أتى بحسنة وهي بعشرة فيحصل من مجموعه ثلاثون فاقتصر في الحديث على الفضل الزائد وهو سبعة وعشرون دون الثلاثة التي هي أصل ذلك. انتهى. وظهر لي في الجمع بين العددين أن أقل الجماعة إمام ومأموم، فلولا الإمام ما سمى المأموم وكذا عكسه، فإذا تفضل الله على من صلى جماعة بزيادة خمس وعشرين درجة حمل الخبر الوارد بلفظها على الفضل الزائد، والخبر الوارد بلفظ سبع وعشرين على الأصل والفضل. وقد خاض قوم في تعيين الأسباب المقتضية للدرجات المذكورة، قال ابن الجوزي: وما جاءوا بطائل. وقال المحب الطبري: ذكر بعضهم أن في حديث أبي هريرة - يعني ثالث أحاديث الباب - إشارة إلى بعض ذلك، ويضاف إليه أمور أخرى وردت في ذلك، وقد فصلها ابن بطال وتبعه جماعة من الشارحين، وتعقب الزين ابن المنير بعض ما ذكره واختار تفصيلا آخر أورده، وقد نقحت ما وقفت عليه من ذلك وحذفت ما لا يختص بصلاة الجماعة: فأولها إجابة المؤذن بنية الصلاة في الجماعة، والتبكير إليها في أول الوقت، والمشي إلى المسجد بالسكينة، ودخول المسجد داعيا، وصلاة التحية عند دخوله كل ذلك بنية الصلاة في الجماعة، سادسها انتظار الجماعة، سابعها صلاة الملائكة عليه واستغفارهم له، ثامنها شهادتهم له، تاسعها إجابة الإقامة، عاشرها السلامة من الشيطان حين يفر عند الإقامة، حادي عاشرها الوقوف منتظرا إحرام الإمام أو الدخول معه في أي هيئة وحده عليها، ثاني عشرها إدراك تكبيرة الإحرام كذلك، ثالث عشرها تسوية الصفوف وسد فرجها، رابع عشرها جواب الإمام عند قوله سمع الله لمن حمده، خامس عشرها الأمن من السهو غالبا وتنبيه الإمام إذا سها بالتسبيح أو الفتح عليه، سادس عشرها حصول الخشوع والسلامة عما يلهي غالبا، سابع عشرها تحسين الهيئة غالبا، ثامن عشرها احتفاف الملائكة به، تاسع عشرها التدرب على تجويد القراءة وتعلم الأركان والأبعاض، العشرون إظهار شعائر الإسلام، الحادي والعشرون إرغام الشيطان بالاجتماع على العبادة والتعاون على الطاعة ونشاط المتكاسل، الثاني والعشرون السلامة من صفة النفاق ومن إساءة غيره الظن بأنه ترك الصلاة رأسا، الثالث والعشرون رد السلام على الإمام، الرابع والعشرون الانتفاع باجتماعهم على الدعاء والذكر وعود بركة الكامل على الناقص، الخامس والعشرون قيام نظام الألفة بين الجيران وحصول تعاهدهم في أوقات الصلوات. فهذه خمس وعشرون خصلة ورد في كل منها أمر أو ترغيب يخصه، وبقي منها أمران يختصان بالجهرية وهما الإنصات عند قراءة الإمام والاستماع لها والتأمين عند تأمينه ليوافق تأمين الملائكة، وبهذا يترجح أن السبع تختص بالجهرية صلى الله عليه وسلم والله أعلم. (تنبيهات) : (الأول) مقتضى الخصال التي ذكرتها اختصاص التضعيف بالتجمع في المسجد وهو الراجح في نظري كما سيأتي البحث فيه، وعلى تقدير أن لا يختص بالمسجد فإنما ذكرته ثلاثة أشياء وهي المشي والدخول والتحية، فيمكن أن تعوض من بعض ما ذكر مما يشتمل على خصلتين متقاربتين أقيمتا مقام خصلة واحدة كالأخيرتين لأن منفعة الاجتماع على الدعاء والذكر غير منفعة عود بركة الكامل على الناقص، وكذا فائدة قيام نظام الألفة غير فائدة حصول التعاهد، وكذا فائدة أمن المأمومين من السهو غالبا غير تنبيه الإمام إذا سها. فهذه ثلاثة يمكن أن يعوض بها الثلاثة المذكورة فيحصل المطلوب. (الثاني) لا يرد على الخصال التي ذكرتها كون بعض الخصال يختص ببعض من صلى جماعة دون بعض كالتبكير في أول الوقت وانتظار الجماعة وانتظار إحرام الإمام ونحو ذلك، لأن أجر ذلك يحصل لقاصده بمجرد النية ولو لم يقع كما سبق، والله أعلم. (الثالث) معنى الدرجة أو الجزء حصول مقدار صلاة المنفرد بالعدد المذكور للمجمع، وقد أشار ابن دقيق العيد إلى أن بعضهم زعم خلاف ذلك قال: والأول أظهر، لأنه قد ورد مبينا في بعض الروايات. انتهى. وكأنه يشير إلى ما عند مسلم في بعض طرقه بلفظ " صلاة الجماعة تعدل خمسا وعشرين من صلاة الفذ " وفي أخرى " صلاة مع الإمام أفضل من خمس وعشرين صلاة يصليها وحده " ولأحمد من حديث ابن مسعود بإسناد رجاله ثقات نحوه وقال في آخره " كلها مثل صلاته " وهو مقتضى لفظ رواية أبي هريرة الآتية حيث قال " تضعف " لأن الضعف كما قال الأزهري المثل إلى ما زاد ليس بمقصور على المثلين تقول هذا ضعف الشيء أي مثله أو مثلاه فصاعدا لكن لا يزاد على العشرة. وظاهر قوله " تضعف " وكذا قوله في روايتي ابن عمر وأبي سعيد " تفضل " أي تزيد، وقوله في رواية أبي هريرة السابقة في " باب مساجد السوق " يريد أن صلاة الجماعة تساوي صلاة المنفرد وتزيد عليها العدد المذكور فيكون لمصلي الجماعة ثواب ست أو ثمان وعشرين من صلاة المنفرد. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ حَدَّثَنِي ابْنُ الْهَادِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَبَّابٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صَلَاةَ الْفَذِّ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً الشرح: قوله: (عن عبد الله بن خباب) بمعجمة وموحدتين الأولى مثقلة، وهو أنصاري مدني، ويوافقه في اسمه واسم أبيه عبد الله بن خباب بن الأرت، لكن ليست له في الصحيحين رواية. قوله: (بخمس وعشرين) في رواية الأصيلي " خمسا وعشرين " زاد ابن حبان وأبو داود من وجه آخر عن أبي سعيد " فإن صلاها في فلاة فأتم ركوعها وسجودها بلغت خمسين صلاة " وكأن السر في ذلك أن الجماعة لا تتأكد في حق المسافر لوجود المشقة، بل حكى النووي أنه لا يجري فيه الخلاف في وجوبها صلى الله عليه وسلم لكن فيه نظر فإنه خلاف نص الشافعي، وحكى أبو داود عن عبد الواحد قال: في هذا الحديث أن صلاة الرجل في الفلاة تضاعف على صلاته في الجماعة. انتهى. وكأنه أخذه من إطلاق قوله " فإن صلاها " لتناوله الجماعة والانفراد، لكن حمله على الجماعة أولى، وهو الذي يظهر من السياق، ويلزم على ما قال النووي أن ثواب المندوب يزيد على ثواب الواجب عند من يقول بوجوب الجماعة، وقد استشكله القرافي على أصل الحديث بناء على القول بأنها سنة، ثم أورد عليه أن الثواب المذكور مرتب على صلاة الفرض وصفته من صلاة الجماعة، فلا يلزم منه زيادة ثواب المندوب على الواجب. وأجاب بأنه تفرض المسألة فيمن صلى وحده ثم أعاد في جماعة فإن ثواب الفرض يحصل له بصلاته وحده، والتضعيف يحصل بصلاته في الجماعة، فبقي الإشكال على حاله، وفيه نظر لأن التضعيف لم يحصل بسبب الإعادة وإنما حصل بسبب الجماعة، إذ لو أعاد منفردا لم يحصل له إلا صلاة واحدة فلا يلزم منه زيادة ثواب المندوب على الواجب. ومما ورد من الزيادة على العدد المذكور ما أخرجه ابن أبي شيبة من طريق عكرمة عن ابن عباس موقوفا عليه قال " فضل صلاة الجماعة على صلاة المنفرد خمس وعشرون درجة. قال: فإن كانوا أكثر من ذلك فعلى عدد من في المسجد. فقال رجل: وإن كانوا عشرة آلاف؟ قال نعم " وهذا له حكم الرفع لأنه لا يقال بالرأي، لكنه غير ثابت. (تنبيه) : سقط حديث أبي سعيد من هذا الباب في رواية كريمة وثبت للباقين، وأورده الإسماعيلي قبل حديث عمر. الحديث: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ قَالَ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا صَالِحٍ يَقُولُ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي الْجَمَاعَةِ تُضَعَّفُ عَلَى صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ وَفِي سُوقِهِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ ضِعْفًا وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا الصَّلَاةُ لَمْ يَخْطُ خَطْوَةً إِلَّا رُفِعَتْ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ وَحُطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ فَإِذَا صَلَّى لَمْ تَزَلْ الْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَيْهِ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ وَلَا يَزَالُ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاةٍ مَا انْتَظَرَ الصَّلَاةَ الشرح: قوله في حديث أبي هريرة (صلاة الرجل في الجماعة) في رواية الحموي والكشميهني " في جماعة " بالتنكير. قوله: (خمسة وعشرين ضعفا) كذا في الروايات التي وقفنا عليها، وحكى الكرماني وغيره أن فيه خمسا وعشرين درجة، بتأويل الضعف بالدرجة أو الصلاة. قوله: (في بيته وفي سوقه) مقتضاه أن الصلاة في المسجد جماعة تزيد على الصلاة في البيت وفي السوق جماعة وفرادى قاله ابن دقيق العيد، قال: والذي يظهر أن المراد بمقابل الجماعة في المسجد الصلاة في غيره منفردا، لكنه خرج مخرج الغالب في أن من لم يحضر الجماعة في المسجد صلى منفردا، قال: وبهذا يرتفع الإشكاك عمن استشكل تسوية الصلاة في البيت والسوق. انتهى. ولا يلزم من حمل الحديث على ظاهره التسوية المذكورة، إذ لا يلزم من استوائهما في المفضولية عن المسجد أن لا يكون أحدهما أفضل من الآخر، وكذا لا يلزم منه أن كون الصلاة جماعة في البيت أو السوق لا فضل فيها على الصلاة منفردا، بل الظاهر أن التضعيف المذكور مختص بالجماعة في المسجد، والصلاة في البيت مطلقا أولى منها في السوق لما ورد من كون الأسواق موضع الشياطين، والصلاة جماعة في البيت وفي السوق أولى من الانفراد. وقد جاء عن بعض الصحابة قصر التضعيف إلى خمس وعشرين على التجميع، وفي المسجد العام مع تقرير الفضل في غيره. وروى سعيد بن منصور بإسناد حسن عن أوس المعافري أنه قال لعبد الله بن عمرو بن العاص: أرأيت من توضأ فأحسن الوضوء ثم صلى في بيته؟ قال: حسن جميل. قال: فإن صلى في مسجد عشيرته؟ قال: خمس عشرة صلاة. قال: فإن مشى إلى مسجد جماعة فصلى فيه؟ قال: خمس وعشرون. انتهى. وأخرج حميد بن زنجويه في " كتاب الترغيب " نحوه من حديث واثلة، وخص الخمس والعشرون بمسجد القبائل. قال: وصلاته في المسجد الذي يجمع فيه - أي الجمعة - بخمسمائة، وسنده ضعيف. قوله: (وذلك أنه إذا توضأ) ظاهر في أن الأمور المذكورة علة للتضعيف المذكور، إذ التقدير: وذلك لأنه، فكأنه يقول: التضعيف المذكور سببه كيت وكيت، وإذا كان كذلك فما رتب على موضوعات متعددة لا يوجد بوجود بعضها إلا إذا دل الدليل على إلغاء ما ليس معتبرا أو ليس مقصودا لذاته. وهذه الزيادة التي في حديث أبي هريرة معقولة المعنى، فالأخذ بها متوجه، والروايات المطلقة لا تنافيها بل يحمل مطلقها على هذه المقيدة، والذين قالوا بوجوب الجماعة على الكفاية ذهب كثير منهم إلى أن الحرج لا يسقط بإقامة الجماعة في البيوت، وكذا روى عن أحمد في فرض العين، ووجهوه بأن أصل المشروعية إنما كان في جماعة المساجد، وهو وصف معتبر لا ينبغي إلغاؤه فيختص به المسجد، ويلحق به ما في معناه مما يحصل به إظهار الشعار. قوله: (لا يخرجه إلا الصلاة) أي قصد الصلاة في جماعة، واللام فيها للعهد لما بيناه. قوله: (لم يخط) بفتح أوله وضم الطاء. و قوله: (خطوة) ضبطناه بضم أوله ويحوز الفتح، قال الجوهري: الخطوة بالضم ما بين القدمين، وبالفتح المرة الواحدة وجزم اليعمري أنها هنا بالفتح. وقال القرطبي: إنها في روايات مسلم بالضم، والله أعلم. قوله: (فإذا صلى) قال ابن أبي جمرة: أي صلى صلاة تامة، لأنه صلى الله عليه وسلم قال للمسيء صلاته " رجع فصل، فإنك لم تصل". قوله: (في مصلاه) أي في المكان الذي أوقع فيه الصلاة من المسجد، وكأنه خرج مخرج الغالب، وإلا فلو قام إلى بقعة أخرى من المسجد مستمرا على نية انتظار الصلاة كان كذلك. قوله: (اللهم ارحمه) أي قائلين ذلك، زاد ابن ماجه " اللهم تب عليه " وفي الطريق الماضية في باب مسجد السوق " اللهم اغفر له " واستدل به على أفضلية الصلاة على غيرها من الأعمال لما ذكر من صلاة الملائكة عليه ودعائهم له بالرحمة والمغفرة والتوبة، وعلى تفضيل صالحي الناس على الملائكة لأنهم يكونون في تحصيل الدرجات بعبادتهم والملائكة مشغولون بالاستغفار والدعاء لهم. واستدل بأحاديث الباب على أن الجماعة ليست شرطا لصحة الصلاة لأن قوله " على صلاته وحده " يقتضي صحة صلاته منفردا لاقتضاء صيغة أفعل الاشتراك في أصل التفاضل، فإن ذلك يقتضي وجود فضيلة في صلاة المنفرد، وما لا يصح لا فضيلة فيه. قال القرطبي وغيره: ولا يقال إن لفظة أفعل قد ترد لإثبات صفة الفضل في إحدى الجهتين كقوله تعالى (أحسن مقيلا) لأنا نقول إنما يقع ذلك على قلة حيث ترد صيغة أفعل مطلقة غير مقيدة بعدد معين، فإذا قلنا هذا العدد أزيد من هذا بكذا فلا بد من وجود أصل العدد، ولا يقال يحمل المنفرد على المعذور لأن قوله " صلاة الفذ " صيغة عموم فيشمل من صلى منفردا بعذر وبغير عذر، فحمله على المعذور يحتاج إلى دليل. وأيضا ففضل الجماعة حاصل للمعذور لما سيأتي في هذا الكتاب من حديث أبي موسى مرفوعا " إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمل صحيحا مقيما". وأشار ابن عبد البر إلى أن بعضهم حمله على صلاة النافلة، ثم رده بحديث " أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة " واستدل بها على تساوي الجماعات في الفضل سواء كثرت الجماعة أم قلت، لأن الحديث دل على فضيلة الجماعة على المنفرد بغير واسطة فيدخل فيه كل جماعة، كذا قال بعض المالكية، وقواه بما روى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح إبراهيم النخعي قال: إذا صلى الرجل مع الرجل فهما جماعة لهم التضعيف خمسا وعشرين. انتهى. وهو مسلم في أصل الحصول، لكنه لا ينفي مزيد الفضل لما كان أكثر، لا سيما مع وجود النص المصرح به وهو ما رواه أحمد وأصحاب السنن وصححه ابن خزيمة وغيره من حديث أبي بن كعب مرفوعا " صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كثر فهو أحب إلى الله"، وله شاهد قوي في الطبراني من حديث قباث بن أشيم وهو بفتح القاف والموحدة وبعد الألف مثلثة، وأبوه بالمعجمة بعدها تحتانية بوزن أحمر، ويترتب على الخلاف المذكور أن من قال بالتفاوت استحب إعادة الجماعة مطلقا لتحصيل الأكثرية، ولم يستحب ذلك الآخرون، ومنهم من فصل فقال: تعاد مع الأعلم أو الأورع أو في البقعة الفاضلة، ووافق مالك على الأخير لكن قصره على المساجد الثلاثة، والمشهور عنه بالمسجدين المكي والمدني. وكما أن الجماعة تتفاوت في الفضل بالقلة والكثرة وغير ذلك مما ذكر كذلك يفوق بعضها بعضا، ولذلك عقب المصنف الترجمة المطلقة في فضل الجماعة بالترجمة المقيدة بصلاة الفجر، واستدل بها على أن أقل الجماعة إمام ومأموم، وسيأتي الكلام عليه في باب مفرد قريبا إن شاء الله تعالى. *3* الشرح: قوله: (باب فضل صلاة الفجر في جماعة) هذه الترجمة أخص من التي قبلها، ومناسبة حديث أبي هريرة لها من قوله " وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر " فإنه يدل على مزية لصلاة الفجر على غيرها. وزعم ابن بطال أن في قوله " وتجتمع " إشارة إلى أن الدرجتين الزائدتين على خمس وعشرين تؤخذ من ذلك، ولهذا عقبه برواية ابن عمر التي فيها بسبع وعشرين، وقد تقدم الكلام على الاجتماع المذكور في " باب فضل صلاة العصر " من المواقيت. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ تَفْضُلُ صَلَاةُ الْجَمِيعِ صَلَاةَ أَحَدِكُمْ وَحْدَهُ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا وَتَجْتَمِعُ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا قَالَ شُعَيْبٌ وَحَدَّثَنِي نَافِعٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ تَفْضُلُهَا بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً الشرح: قوله: (بخمس وعشرين جزءا) كذا في النسخ التي وقفت عليها، ونقل الزركشي في نكته أنه وقع في الصحيحين " خمس " بحذف الموحدة من أوله والهاء من آخره، قال: وخفض خمس على تقدير الباء كقول الشاعر أشارت كليب بالأكف الأصابع أي إلى كليب. وأما حذف الهاء فعلى تأويل الجزء بالدرجة. انتهى. وقد أورده المؤلف في التفسير من طريق معمر عن الزهري بلفظ " فضل صلاة الجميع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة". قوله: (قال شعيب وحدثني نافع) أي بالحديث مرفوعا نحوه، إلا أنه قال " بسبع وعشرين درجة، وهو موافق لرواية مالك وغيره عن نافع كما تقدم، وطريق شعيب هذه موصولة، وجوز الكرماني أن تكون معلقة وهو بعيد، بل هي معطوفة على الإسناد الأول، والتقدير حدثنا أبو اليمان قال شعيب: ونظائر هذا في الكتاب كثيرة، ولكن لم أر طريق شعيب هذه إلا عند المصنف، ولم يستخرجها الإسماعيلي ولا أبو نعيم ولا أوردها الطبراني في مسند الشاميين في ترجمة شعيب. الحديث: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ قَالَ سَمِعْتُ سَالِمًا قَالَ سَمِعْتُ أُمَّ الدَّرْدَاءِ تَقُولُ دَخَلَ عَلَيَّ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَهُوَ مُغْضَبٌ فَقُلْتُ مَا أَغْضَبَكَ فَقَالَ وَاللَّهِ مَا أَعْرِفُ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا إِلَّا أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ جَمِيعًا الشرح: قوله: (سمعت سالما) هو ابن أبي الجعد، وأم الدرداء هي الصغرى التابعية لا الكبرى الصحابية لأن الكبرى ماتت في حياة أبي الدرداء وعاشت الصغرى بعده زمانا طويلا. وقد جزم أبو حاتم بأن سالم بن أبي الجعد لم يدرك أبا الدرداء، فعلى هذا لم يدرك أم الدرداء الكبرى. وفسرها الكرماني هنا بصفات الكبرى وهو خطأ لقول سالم " سمعت أم الدرداء " وقد تقدم في المقدمة أن اسم الصغرى هجيمة والكبرى خيرة. قوله: (من أمة محمد) كذا في رواية أبي ذر وكريمة، وللباقين " من محمد " بحذف المضاف، وعليه شرح ابن بطال ومن تبعه فقال: يريد من شريعة محمد شيئا لم يتغير عما كان عليه إلا الصلاة في جماعة، فحذف المضاف لدلالة الكلام عليه. انتهى. ووقع في رواية أبي الوقت " من أمر محمد " بفتح الهمزة وسكون الميم بعدها راء، وكذا ساقه الحميدي في جمعه، وكذا هو في مسند أحمد ومستخرجي الإسماعيلي وأبي نعيم من طرق عن الأعمش، وعندهم " ما أعرف فيهم " أي في أهل البلد الذي كان فيه، وكأن لفظ " فيهم " لما حذف من رواية البخاري صحف بعض النقلة " أمر " بأمة ليعود الضمير في أنهم على الأمة. قوله: (يصلون جميعا) أي مجتمعين، وحذف المفعول وتقديره الصلاة أو الصلوات، ومراد أبي الدرداء أن أعمال المذكورين حصل في جميعها النقص والتغيير إلا التجميع في الصلاة، وهو أمر نسبي لأن حال الناس في زمن النبوة كان أتم مما صار إليه بعدها، ثم كان في زمن الشيخين أتم مما صار إليه بعدهما وكأن ذلك صدر من أبي الدرداء في أواخر عمره وكان ذلك في أواخر خلافة عثمان، فيا ليت شعري إذا كان ذلك العصر الفاضل بالصفة المذكورة عند أبي الدرداء فكيف بمن جاء بعدهم من الطبقات إلى هذا الزمان؟ وفي هذا الحديث جواز الغضب عند تغير شيء من أمور الدين، وإنكار المنكر بإظهار الغضب إذا لم يستطع أكثر منه، والقسم على الخبر لتأكيده في نفس السامع. الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْظَمُ النَّاسِ أَجْرًا فِي الصَّلَاةِ أَبْعَدُهُمْ فَأَبْعَدُهُمْ مَمْشًى وَالَّذِي يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ حَتَّى يُصَلِّيَهَا مَعَ الْإِمَامِ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ الَّذِي يُصَلِّي ثُمَّ يَنَامُ الشرح: قوله: (أبعدهم فأبعدهم ممشى) أي إلى المسجد، وسيأتي الكلام على ذلك بعد باب واحد. قوله: (مع الإمام) زاد مسلم " في جماعة " وبين أنها رواية أنها كريب - وهو محمد بن العلاء - الذي أخرجه البخاري عنه. قوله: (من الذي يصلي ثم ينام) أي سواء صلى وحده أو في جماعة، ويستفاد منه أن الجماعة تتفاوت كما تقدم. (تكميل) : استشكل إيراد حديث أبي موسى في هذا الباب، لأنه ليس فيه لصلاة الفجر ذكر، بل آخره يشعر بأنه في العشاء. ووجهه ابن المنير وغيره بأنه دل على أن السبب في زيادة الأجر وجود المشقة بالمشي إلى الصلاة، وإذا كان كذلك فالمشي إلى صلاة الفجر في جماعة أشق من غيرها، لأنها وإن شاركتها العشاء في المشي في الظلمة فإنها تزيد عليها بمفارقة النوم المشتهي طبعا، ولم أر أحدا من الشراح نبه على مناسبة حديث أبي الدرداء للترجمة إلا الزين بن المنير فإنه قال: تدخل صلاة الفجر في قوله " يصلون جميعا " وهي أخص بذلك من باقي الصلوات. وذكر ابن رشيد نحوه وزاد أن استشهاد أبي هريرة في الحديث الأول بقوله تعالى: وأقول: تفنن المصنف بإيراد الأحاديث الثلاثة في الباب إذ تؤخذ المناسبة من حديث أبي هريرة بطريق الخصوص، ومن حديث أبي الدرداء بطريق العموم، ومن حديث أبي موسى بطريق الاستنباط. ويمكن أن يقال: لفظ الترجمة يحتمل أن يراد به فضل الفجر على غيرها من الصلوات، وأن يراد به ثبوت الفضل لها في الجملة، فحديث أبي هريرة شاهد للأول، وحديث أبي الدرداء شاهد للثاني، وحديث أبي موسى شاهد لهما، والله أعلم.
|